هوس النشر في السوشيال ميديا

عندما يشكّل النشر على وسائل التواصل الاجتماعي محور حياتنا: قراءة نقدية موسّعة في الظاهرة الرقمية الحديثة

لقد بات من المتعذر الحديث عن الحياة اليومية للفرد المعاصر دون استحضار الدور الجوهري الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي. فمن مجرد أدوات للتفاعل الاجتماعي العابر، تطورت هذه المنصات لتتحول إلى مساحات محورية تتحكم في أنماط التفكير، وتوجه سلوكيات الأفراد، وتؤثر على تصورهم لأنفسهم وللعالم من حولهم. في هذا المقال، نتناول بتفصيل نقدي ظاهرة جعل النشر على وسائل التواصل الاجتماعي محورًا للحياة، مستعرضين أبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، مع الإشارة إلى بعض مظاهر الخلل والمخاطر التي قد تنجم عن هذا التمركز المرضي حول الذات الرقمية.

1. من التفاعل إلى التمركز: جذور الظاهرة وتطورها

في بدايات انتشار الإنترنت، لم تكن المنصات الاجتماعية موجودة بعد، وكان التفاعل بين الأفراد مقتصرًا على المنتديات، المدونات، والبريد الإلكتروني. لكن مع ظهور منصات مثل Facebook وTwitter وInstagram، ومن ثم TikTok وSnapchat، تغيرت طبيعة التفاعل تمامًا، حيث أصبحت المشاركة الذاتية، لا سيما من خلال الصور والمنشورات اليومية، تمثل صميم الاستخدام. تدرج الأمر من مجرد “مشاركة” إلى ما يشبه الأداء المسرحي المستمر، حيث يشعر الفرد بأنه مطالب دومًا بأن يثبت وجوده وفرادته عبر تحديثات مستمرة ومصقولة للحياة اليومية.

2. الهوية الرقمية كمصدر للمعنى والاعتراف

إن ما نشهده اليوم لا يقتصر على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للتسلية أو التواصل، بل تعدى ذلك ليصبح النشر عبر هذه الوسائل أحد الأركان التي تُبنى عليها هوية الفرد. فالصورة التي ينشرها المرء عن نفسه لا تعبّر بالضرورة عن حقيقته، بل عمّا يريد أن يراه الآخرون. بعبارة أدق، أصبحت الهوية الرقمية، في بعض الأحيان، بديلًا عن الهوية الواقعية، ومصدرًا للاعتراف الاجتماعي.

هذا التحول يعكس رغبة عميقة في الاعتراف والانتماء، غير أن هذه الرغبة تأخذ شكلًا مرضيًا عندما يرتبط تقدير الذات بعدد الإعجابات، أو بالتفاعل الرقمي، فيصبح النشر المتكرر وسيلة للإشباع النفسي المؤقت.

3. هيمنة “اللحظة القابلة للنشر”: انزلاق الحياة إلى الاستعراض

لقد تغيرت علاقتنا مع اللحظة الحاضرة؛ لم نعد نعيش اللحظة لأجل تجربتها، بل لأجل توثيقها ومشاركتها. أصبح الهاتف الذكي هو “العين” التي ترى، واليد التي تكتب، والعقل الذي ينتقي ما يستحق أن يُنشر، في حين تُهمل اللحظات العفوية التي لا تتناسب مع شروط النشر الجمالي أو الاجتماعي.

في هذا السياق، تظهر مفاهيم مثل “اللحظة القابلة للنشر” (Instagrammable moment) والتي باتت تحكم تفاصيل حياة الناس، من اختياراتهم الغذائية، إلى وجهاتهم السياحية، وقراراتهم اليومية. لم تعد الغاية من النشاط الشخصي هي المتعة الذاتية أو الراحة النفسية، بل القدرة على تحويله إلى محتوى رقمي يُستهلك من قبل جمهور غير مرئي.

4. الاستهلاك الثقافي والمعيشي تحت نير الاستعراض

تؤثر هذه الظاهرة أيضًا على الاقتصاد الاستهلاكي وأنماط العيش، حيث أصبح الكثير من المستهلكين يشترون منتجات أو يزورون أماكن فقط لأجل تصويرها ونشرها، لا لأجل استخدامها أو الاستمتاع بها. هذا النوع من الاستهلاك الاستعراضي يشجع النزعة المظهرية ويخلق ضغوطًا نفسية واجتماعية، لا سيما لدى الفئات الأقل قدرة على مجاراة هذا التوجه.

بالمقابل، تحولت العلامات التجارية إلى فاعل أساسي في دعم هذه النزعة، حيث تستعين بالمؤثرين والمشاهير الرقميين لترويج منتجاتها، في إطار ما يُعرف بالتسويق عبر المحتوى (content marketing)، مما عزز من مركزية “النشر” كوسيلة للربح والشهرة.

5. العزلة الاجتماعية المقنّعة

رغم الطابع الاجتماعي الظاهري لهذه المنصات، إلا أن التمركز المفرط حول الذات الرقمية يؤدي في كثير من الأحيان إلى عزلة حقيقية. فالعلاقات التي تُبنى عبر الوسائط الرقمية، والتي تُقاس بعدد المتابعين، تفتقر في الغالب إلى العمق والأصالة. يظن البعض أنهم محاطون بجمهور دائم، في حين أن الحقيقة أنهم وحيدون خلف شاشاتهم، يبحثون عن تفاعل لا يتجاوز إشارات رقمية عابرة.

تتزايد المؤشرات على ارتباط هذه العزلة الرقمية بانتشار حالات الاكتئاب والقلق لدى الشباب، نتيجة الإحساس المزمن بعدم الكفاية، أو المقارنة المستمرة مع الآخرين، أو السعي المحموم للحفاظ على صورة رقمية “مثالية”.

6. اضطرابات نفسية مرتبطة بالنشر المفرط

بحسب دراسات نفسية حديثة، فإن الاستخدام القهري لوسائل التواصل الاجتماعي قد يؤدي إلى اضطرابات محددة، مثل اضطراب التحقق القهري (Compulsive Checking Disorder)، واضطراب القلق من الفقد الرقمي (FOMO: Fear Of Missing Out)، واضطراب مقارنة الذات بالآخرين، وغيرها.

تشير البيانات إلى أن هذه الاضطرابات ليست عابرة، بل قد تمتد لتؤثر على الأداء المهني، والعلاقات الشخصية، وحتى الصحة الجسدية، بسبب التوتر المزمن، وقلة النوم، والاكتئاب.

7. أدوار متغيرة للأسرة والمجتمع

أحدثت هذه الظاهرة أيضًا تحولًا في ديناميكيات الأسرة، حيث بات من المعتاد أن تُوثق لحظات الطفولة منذ ولادة الطفل وحتى سنواته الدراسية المبكرة على وسائل التواصل، ما يخلق ما يسمى بـ “الهوية الرقمية القسرية” للأطفال، الذين قد لا يوافقون مستقبلاً على هذه الصورة العامة عنهم.

وفي المجتمعات العربية، حيث ما زالت القيم التقليدية تلعب دورًا محوريًا، ظهرت فجوات بين الأجيال بشأن خصوصية الحياة ومفاهيم التفاخر أو التواضع، وهو ما أدى في بعض الحالات إلى صدامات داخل الأسرة حول سلوك النشر المفرط أو الاستعراض المفرط للحياة الشخصية.

8. من النشر إلى التوثيق إلى الرقابة الذاتية

يؤدي التمركز حول النشر أيضًا إلى ممارسات رقابية داخلية، حيث يصبح الفرد حريصًا على صياغة محتواه بما يتلاءم مع الصورة العامة التي يريد تقديمها، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة أو الصدق الشخصي. ينجم عن هذا نوع من الانفصال بين الذات الحقيقية والذات المنشورة، وقد يصل الأمر إلى “احتراق رقمي” يشعر فيه الشخص بالإرهاق من التمثيل المستمر.

وتُظهر دراسات في علم الاجتماع الرقمي أن هذا الشكل من الرقابة الذاتية يؤدي إلى شعور بالإرهاق النفسي، وفقدان العفوية، وضعف القدرة على تكوين علاقات حقيقية ومستقرة، نظرًا لأن جميع التفاعلات تمر عبر مرشّحات رقمية.

9. الجدول التالي يبيّن الفروق بين الاستخدام الطبيعي والمنحرف لوسائل التواصل الاجتماعي:

10. نحو استعادة التوازن: محاور مقترحة للتقويم الذاتي والاجتماعي

لمعالجة هذا الانزلاق، لا بد من إعادة النظر في علاقتنا بوسائل التواصل، بحيث تُعاد مركزية “الحياة الواقعية” إلى مكانها الطبيعي. يشمل ذلك تعزيز الوعي النقدي بآليات التأثير الرقمي، وتربية الأجيال الجديدة على مهارات التفكير النقدي الرقمي، وتخصيص أوقات خالية من الهاتف، والتشجيع على العلاقات غير الوسيطة التي لا تمر عبر الشاشات.

كما أن المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية مطالبة بالمشاركة الفعالة في تفكيك هذه الظاهرة، من خلال التوعية بمخاطرها النفسية والاجتماعية، والدعوة إلى الاستخدام المعتدل، وتوفير بدائل واقعية ومجتمعية تشجع على التواصل الإنساني المباشر.

المراجع:

1. Turkle, Sherry. Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. Basic Books, 2011.

2. Twenge, Jean M. iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy. Atria Books, 2017.